فصل: تفسير الآيات رقم (104- 105)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 105‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قرأ جمهور الناس «ألم يعلموا» على ذكر الغائب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف عنه «ألم تعلموا» على معنى قل لهم يا محمد «ألم تعلموا»، وكذلك هي في مصحف أبي بن كعب بالتاء من فوق، والضمير في ‏{‏يعلموا‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين، وذلك أنهم لما تيب على بعضهم قال الغير ما هذه الخاصة التي خص بها هؤلاء‏؟‏ فنزلت هذه الآية، ويحتمل أن يكون الضمير في ‏{‏يعلموا‏}‏ يراد به الذين تابوا وربطوا أنفسهم، وقوله هو تأكيد لانفراد الله بهذه الأمور وتحقيق لذلك، لأنه لو قال إن الله يقبل التوبة لاحتمل، ذلك أن يكون قبوله رسوله قبولاً منه فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك، وقوله ‏{‏ويأخذ الصدقات‏}‏ معناه يأمر بها ويشرعها كما تقول أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه‏.‏

وقال الزجّاج‏:‏ معناه ويقبل الصدقات، وقد وردت أحاديث في أخذ الله صدقة عبيده، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن أبي قتادة المحاربي عن ابن مسعود عنه‏:‏ «إن العبد إذا تصدق بصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل»، ومنها قوله الذي رواه أبو هريرة‏:‏ «إن الصدقة تكون قدر اللقمة يأخذها الله بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل»، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد، فقد يحتمل أن تخرج لفظة ‏{‏ويأخذ‏}‏ على هذا، ويتعلق بهذه الآية القول في قبول التوبة، وتلخيص ذلك أن قبول التوبة من الكفر يقطع به عن الله عز وجل إجماعاً، وهذه نازلة هذه الآية، وهذه الفرقة التائبة من النفاق تائبة من كفر، وأما قبول التوبة من المعاصي فيقطع بأن الله تعالى يقبل من طائفة من الأمة توبتهم، واختلف هل تقبل توبة الجميع، وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته ولا يقطع بها على الله، وأما إذا فرضنا تائباً غير معين صحيح التوبة فهل يقطع على الله بقبول توبته أم لا، فاختلف فقالت فرقة فيها الفقهاء والمحدثون- وهو كان مذهب أبي رضي الله عنه- يقطع على الله بقول توبته لأنه تعالى أخبر بذلك عن نفسه، وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين، وذهب أبو المعالي وغيره من الأئمة إلى أن ذلك لا يقطع به على الله تعالى بل يقوى فيه الرجاء، ومن حجتهم أن الإنسان إذا قال في الجملة إني لا أغفر لمن ظلمني ثم جاء من قد سبه وآذاه فله تعقب حقه، وبالغفران لقوم يصدق وعده ولا يلزمه الغفران لكل ظالم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ونحو هذا من القول، والقول الأول أرجح والله الموفق للصواب، وقوله تعالى ‏{‏عن عباده‏}‏ هي بمعنى «من» وكثيراً ما يتوصل في موضع واحد بهذه وهذه، تقول لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى، وفعل فلان ذلك من أشره وبطره وعن أشره وبطره، وقوله تعالى ‏{‏ألم يعلموا‏}‏ تقرير، والمعنى حق لهم أن يعلموا، وقوله ‏{‏وقل اعملوا‏}‏ الآية، صيغة أمر مضمنها الوعيد، وقال الطبري‏:‏ المراد بها الذين اعتذروا من المتخلفين وتابوا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والظاهر أن المراد بها الذين اعتذورا ولم يتوبوا وهم المتوعدون وهم الذين في ضمير قوله ‏{‏ألم يعلموا‏}‏ إلا على الاحتمال الثاني من أن الآيات كلها في ‏{‏الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏، ومعنى ‏{‏فسيرى الله‏}‏ أي موجوداً معوضاً للجزاء عليه بخير أو شر، وأما الرسول والمؤمنون فرؤيتهم رؤية حقيقة لا تجوز، وقال ابن المبارك رؤية المؤمنين هي شهادتهم على المرء بعد موته وهي ثناؤهم عند الجنائز، وقال الحسن ما معناه‏:‏ إنهم حذروا من فراسة المؤمن التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»، وقوله تعالى ‏{‏وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ يريد البعث من القبور، و‏{‏الغيب والشهادة‏}‏ معناه ما غاب وما شوهد، وهي حالتان تعم كل شيء، وقوله ‏{‏فينبئكم‏}‏ عبارة عن حضور الأعمال وإظهارها للجزاء عليها وهذا وعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 107‏]‏

‏{‏وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏106‏)‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏وآخرون‏}‏ عطف على قوله أولاً ‏{‏وآخرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏، وقرأ نافع والأعرج وابن نصاح وأبو جعفر وطلحة والحسن وأهل الحجاز «مرجون» من أرجى دون همز، وقرأ أبو عمرو وعاصم وأهل البصرة «مرجؤون» من أرجأ يرجئ بالهمز، واختلف عن عاصم، وهما لغتان، ومعناهما التأخير ومنه المرجئة لأنهم أخروا الأعمال أي أخروا حكمها ومرتبتها، وأنكر المبرد ترك الهمز في معنى التأخير وليس كما قال، والمراد بهذه الآية فيما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وابن إسحاق الثلاثة الذين خلفوا وهم هلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري وكعب بن مالك، ونزلت هذه الآية قبل التوبة عليهم، وقيل إنها نزلت في غيرهم من المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار، وعلى هذا يكون الذين اتخذوا بإسقاط واو العطف بدلاً من ‏{‏آخرون‏}‏، أو خبر ابتداء تقديره هم الذين، فالآية على هذا فيها ترج لهم واستدعاء إلى الإيمان والتوبة، و‏{‏عليم‏}‏ معناه بمن يهدي إلى الرشد، و‏{‏حكيم‏}‏ فيما ينفذه من تنعيم من شاء وتعذيب من شاء لا رب غيره ولا معبود سواه، وقرأ عاصم وعوام القراء والناس في كل قطر إلا بالمدينة «والذين اتخذوا»، وقرأ أهل المدينة نافع وأبو جعفر وشيبة وغيرهم «الذين اتخذوا» بإسقاط الواو، وكذلك في مصحفهم، قاله أبو حاتم، وقال الزهراوي‏:‏ وهي قراءة ابن عامر وهي في مصاحف أهل الشام بغير واو، فأما من قرأ بالواو فذلك عطف على قوله ‏{‏وآخرون‏}‏ أي ومنهم الذين اتخذوا، وأما من قرأ بإسقاطها فرفع ‏{‏الذين‏}‏ بالابتداء‏.‏

واختلف في الخبر فقيل الخبر ‏{‏لا تقم فيه أبداً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏ قاله الكسائي ويتجه بإضمار إما في أول الآية وإما في آخرها، بتقدير لا تقم في مسجدهم وقيل الخبر لا يزال بنيانهم قاله النحاس وهذا أفصح، وقد ذكرت كون ‏{‏الذين‏}‏ بدلاً من، ‏{‏آخرون‏}‏، آنفاً، وقال المهدوي‏:‏ الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه، وأما الجماعة المرادة ب ‏{‏الذين اتخذوا‏}‏، فهم منافقو بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف، وأسند الطبري عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره أنه قال‏:‏ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنَّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنَّا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما أقبل ونزل بذي أوان نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي، فقال‏:‏ انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه، فانطلقا مسرعين ففعلا وحرقاه بنار في سعف، وذكر النقاش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث لهدمه وتحريقه عمار بن ياسر ووحشياً مولى المطعم بن عدي، وكان بانوه اثني عشر رجلاً، خذام بن خالد، ومن داره أخرج مسجد الشقاق وثعلبة بن حاطب ومتعب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، وجارية بن عمرو وابناه مجمع بن جارية وهو كان إمامهم، وحلف لعمر بن الخطاب في خلافته أنه لم يشعر بأمرهم وزيد بن جارية ونبتل بن الحارث، ويخرج وهو من بني ضبيعة وبجاد بن عثمان ووديعة بن ثابت ويخرج منهم هو الذي حلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أردت إلا الحسنى» والتوسعة علينا وعلى من عجز أو ضعف عن المسير إلى مسجد قباء، وقرأ ابن أبي عبلة «ما أردنا إلا الحسنى»، والآية تقتضي شرح شيء من أمر هذه المساجد، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وقت الهجرة بنى مسجداً في بني عمرو بن عوف وهو مسجد قباء، وقيل وجده مبنياً قبل وروده، وقيل وجده موضع صلاة فبناه وتشرف القوم بذلك، فحسدهم من حينئذ رجال من بني عمهم من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف، فكان فيهم نفاق، وكان موضع مسجد قباء مربطاً لحمار امرأة من الأنصار اسمها لية، فكان المنافقون يقولون والله لا نصبر على الصلاة في مربط حمار لية ونحو هذا من الأقوال، وكان أبو عامر عبد عمرو المعروف بالراهب منهم، وكانت أمه من الروم فكان يتعبد في الجاهلية فسمي الراهب، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان سيداً نظيراً وقريباً من عبد الله بن أبي ابن سلول، فلما جاء الله بالاسلام نافق ولم يزل مجاهراً بذلك فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، ثم خرج في جماعة من المنافقين فحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحزاب، فلما ردهم الله بغيظهم أقام أبو عامر بمكة مظهراً لعداوته، فلما فتح الله مكة هرب إلى الطائف‏.‏

فلما أسلم أهل الطائف خرج هارباً إلى الشام يريد قيصر مستنصراً به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى قومه المنافقين منهم أن ابنوا مسجداً مقاومة لمسجد قباء وتحقيراً له، فإني سآتي بجيش من الروم أخرج به محمداً وأصحابه من المدينة فبنوه، وقالوا سيأتي أبو عامر ويصلي فيه ويتخذه متعبداً ويسر به، ثم إن أبا عامر هلك عند قيصر ونزل القرآن في أمر مسجد الضرار فذلك قوله ‏{‏وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله‏}‏ يعني أبا عامر وقولهم سيأتي أبو عامر، وقرأ الأعمش «للذين حاربوا الله» وقوله ‏{‏ضراراً‏}‏ أي داعية للتضار من جماعتين فلذلك قال ‏{‏ضراراً‏}‏ وهو في الأكثر مصدر ما يكون من اثنين وإن كان المصدر الملازم لذلك مفاعلة كما قال سيبويه، ونصب «ضرار» وما بعده على الصدر في موضع الحال، ويجوز أن يكون على المفعول من أجله، وقوله ‏{‏بين المؤمنين‏}‏ يريد بين الجماعة التي كانت تصلي في مسجد قباء فإن من جاوز مسجدهم كانوا يصرفونه إليه وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان، وقيل أراد بقوله ‏{‏بين المؤمنين‏}‏ جماعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بحسب الخلاف في المسجد المؤسس على التقوى وسيأتي ذلك، قال النقاش يلزم من هذا أن لا يصلى في كنيسة ونحوها لأنها بنيت على شر من هذا كله وقد قيل في هذا لا تقم فيه أبداً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا تفقه غير قوي، و«الإرصاد» الإعداد والتهيئة، والذي حارب الله ورسوله هو أبو عامر الفاسق، وقوله ‏{‏من قبل‏}‏ يريد في غزوة الأحزاب وغيرها، والحالف المراد في قوله ‏{‏ليحلفن‏}‏ هو يخرج ومن حلف من أصحابه، وكسرت الألف من قوله ‏{‏إنهم لكاذبون‏}‏ لأن الشهادة في معنى القول، وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته فقيل له إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد، فقال‏:‏ لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني ضراراً ورياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار، وروي أن مسجد الضرار لما هدم وأحرق اتخذ مزبلة ترمى فيه الأقذار والقمامات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 109‏]‏

‏{‏لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ‏(‏108‏)‏ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت ‏{‏لا تقم فيه أبداً‏}‏ كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد، وهذا النهي إنما هو لأن البانين لمسجد الضرار قد كانوا خادعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ بنينا مسجداً للضرورات والسيل الحائل بيننا وبين قومنا فنريد أن تصلي لنا فهو وتدعو بالبركة، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشي معهم إلى ذلك، واستدعى قميصه لينهض فنزلت الآية ‏{‏لا تقم فيه أبداً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لمسجد‏}‏ قيل إن اللام لام قسم، وقيل هي لام الابتداء كما تقول‏:‏ لزيد أحسن الناس فعلاً، وهي مقتضية تأكيداً، وقال ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين‏:‏ المراد «بالمسجد الذي أسس على التقوى» هو مسجد قباء‏.‏

وروي عن عمر وأبي سعيد وزيد بن ثابت أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ويليق القول الأول بالقصة، إلا أن القول الثاني روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نظر مع الحديث، وأسند الطبري في ذلك عن أبي سعيد الخدري أنه قال‏:‏ اختلف رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف فقال الخدري‏:‏ هو مسجد الرسول وقال الآخر‏:‏ هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال‏:‏ هو مسجدي هذا، وفي الآخر خير كثير إلى كثير من الآثار في هذا عن أبي بن كعب وسهل بن سعد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في بقعته نخل وقبور مشركين ومربد ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة، وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، الأولى بالسميط وهي لبنة أمام لبنة، والثانية بالصعيدة، وهي لبنة ونصف في عرض الحائط، والثالثة بالأنثى والذكر، وهي لبنتان تعرض عليهما لبنتان، وكان في طوله سبعون ذراعاً وكان عمده النخل وكان عريشاً يكف في المطر، وعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيانه ورفعه فقال‏:‏ لا بل يكون عريشاً كعريش أخي موسى كان إذا قام ضرب رأسه في سقفه‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل فيه اللبن على صدره، ويقال إن أول من وضع في أساسه حجراً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع أبو بكر حجراً، ثم وضع عمر حجراً، ثم وضع عثمان حجراً، ثم رمى الناس بالحجارة فتفاءل بذلك بعض الصحابة في أنها الخلافة فصدق فأله، قوله‏:‏ ‏{‏من أول يوم‏}‏ قيل معناه منذ أول يوم، وقيل معناه من تأسيس أول يوم، وإنما دعا إلى هذا الاختلاف أن من أصول النحويين أن «من» لا تجر بها الأزمان، وإنما تجر الأزمان بمنذ، تقول ما رأيته منذ يومين أو سنة أو يوم، ولا تقول من شهر ولا من سنة ولا من يوم، فإذا وقعت «من» من الكلام وهي تلي زمناً فيقدر مضمر يليق أن تجره «من» كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏زهير بن أبي سلمى‏]‏

لمن الديار كقنة الحجر *** أقوين من حجج ومن دهر

ومن شهر رواية، فقدروه من مر حجج ومن مر دهر، ولما كان «أول يوم» يوماً وهو اسم زمان احتاجوا فيه إلى تقدير من تأسيس، ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير وأن تكون «من» تجر لفظة «أول» لأنها بمعنى البدأة كأنه قال من مبتدأ الأيام، وهي هاهنا تقوم المر في البيت المتقدم، وهي كما تقول جئت من قبلك ومن بعدك وأنت لا تدل بهاتين اللفظتين إلا على الزمن، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو، ومعنى ‏{‏أن تقوم فيه‏}‏ أي بصلاتك وعبادتك، وقرأ جمهور الناس «أن تقوم فيهِ فيهِ رجال» بكسر الهاء، وقرأ عبد الله بن زيد «أن تقوم فيه فيهُ» بضم الهاء الثانية على الأصل ويحسنه تجنب تكرار لفظ واحد، وقال قتادة وغيره‏:‏ الضمير عائد على مسجد الرسول، و«الرجال» جماعة الأنصار‏.‏

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ «يا معشر الأنصار إني رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون‏؟‏» فقالوا يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يريد الاستنجاء بالماء، ففعلنا نحن ذلك فلما جاء الإسلام لم ندعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فلا تدعوه أبداً»، وقال عبد الله بن سلا م وغيره ما معناه‏:‏ إن الضمير عائد على مسجد قباء والمراد بنو عمرو بن عوف‏.‏

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال المقالة المتقدمة لبني عمرو بن عوف والأول أكثر واختلف أهل العلم في الأفضل بين الاستنجاء بالماء أو بالحجارة فقيل هذا وقيل هذا، ورأت فرقة من أهل العلم الجمع بينهما فينقي بالحجارة ثم يتبع بالماء، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض علماء القيروان كانوا يتخذون في متوضياتهم أحجاراً في تراب ينقون بها، ثم يستنجون بالماء أخذاً بهذا القول‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإنما يتصور الخلاف في البلا التي يمكن فيها أن تنقى الحجارة، وابن حبيب لا يجيز الاستنجاء بالحجارة حيث يوجد الماء، وهو قول شذ فيه، وقرأ جمور الناس «يتطهروا» وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش «يطهروا» بالإدغام، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ «المتطهرين» بالتاء، وأسند الطبري عن عطاء أنه قال‏:‏ أحدث قوم من أهل قباء الاستنجاء بالماء فنزلت الآية فيهم‏.‏

وروي أن رسول الله صلة الله عليه وسلم قال‏:‏ منهم عويم بن ساعدة ولم يسم أحد منهم غير عويم، وقوله‏:‏ ‏{‏أفمن أسس بنيانه‏}‏ الآية استفهام بمعنى تقرير، وقرأ نافع وابن عامر وجماعة «أَسس بنيانُه» على بناء «أسس» للمفعول ورفع «بنيان» فيهما، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وجماعة «أسس بنيانَه» على بناء الفعل للفاعل ونصب «بنيان» فيهما، وقرأ عمارة بن ضبا رواه يعقوب الأول على بناء الفعل للمفعول والثاني على بنائه للفاعل، والآية تتضمن معادلة بين شيئين، فإما بين البناءين وإما بين البانين، فالمعادلة الأولى هي بتقدير أبناء من أسس، وقرأ نصر بن علي ورويت عن نصر بن عاصم‏:‏ «أفمن أس بنيانه» على إضافة «أس» إلى «بنيان» وقرأ نصر بن عاصم وأبو حيوة أيضاً «أساس بنيانه» وقرأ نصر بن عاصم أيضاً «أُسُس بنيانه» على وزن فُعُل بضم الفاء والعين وهو جمع أساس كقذال وقذل حكى ذلك أبو الفتح، وذكر أبو حاتم أن هذه القراءة لنصر إنما هي «أَسَسُ» بهمزة مفتوحة وسين مفتوحة وسين مضمومة، وعلى الحكايتين فالإضافة إلى البنيان، وقرأ نصر بن علي أيضاً «أساس» على جمع «أس» و«البنيان» يقال بنى بيني بناء وبنياناً كالغفران فسمي به المبنى مثل الخلق إذا أردت به المخلوق، وقيل هو جمع واحدة بنيانة، وأنشد في ذلك أبو علي‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كبنيانة القاري موضع رجلها *** وآثار نسعيها من الدق أبلق

وقرأ الجمهور ‏{‏على تقوى‏}‏ وقرأ عيسى بن عمر «على تقوًى» بتنوين الواو حكى هذه القراءة سيبويه وردها الناس، قال أبو الفتح‏:‏ قياسها أن تكون الألف للإلحاق كأرطى ونحوه، وأما المراد بالبنيان الذي أسس على التقوى والرضوان فهو في ظاهر اللفظ وقول الجمهور المسجد المذكور قبل ويطرد فيه الخلاف المتقدم، وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال‏:‏ المراد بالمسجد المؤسس على التقوى هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بأنه أسس على تقوى من الله، ‏{‏ورضوان خير‏}‏ هو مسجد قباء، وأما البنيان الذي أسس ‏{‏على شفا جرف هار‏}‏ فهو مسجد الضرار بإجماع‏.‏

و «الشفا» الحاشية والشفير و«الجرف» حول البئر ونحوه مما جرفته السيول والندوة والبلى‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وجماعة «جُرُف» بضم الراء، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة وجماعة «جرْف» بسكون الراء، واختلف عن عاصم‏.‏ وهما لغتان، وقيل الأصل ضم الراء وتخفيفها بعد ذلك مستعمل و‏{‏هار‏}‏‏:‏ معناه متهدم منهال وهو من هار يهور ويقال هار يهير ويهير، وأصله هاير أو هاور، فقيل قلبت راؤه قبل حرف العلة فجاء هارو أو هاري فصنع به ما صنع بقاض وغاز، وعلى هذا يقال في حال النصب هارياً، ومثله في يوم راح أصله رايح ومثله شاكي السلاح أصله شايك ومثله قول العجاج‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

لاث به الأشاء والعبري *** أصله لايث‏.‏

ومثله قول الشاعر ‏[‏الأجدع الهمداني‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

خَفَضُوا أسنتَهمْ فكلٌّ ناع *** على أحد الوجهين‏:‏

فإنه يحتمل أنه من نعى ينعي والمراد أنهم يقولون يا ثارات فلان، ويحتمل أن يريد فكلهم نايع أي عاطش كما قال عامر بن شييم، والأسل النياعا وقيل في ‏{‏هار‏}‏ إن حرف علته حذف حذفاً فعلى هذا يجري بوجوه الإعراب، فتقول‏:‏ جرف هار ورأيت جرفاً هاراً، ومررت بحرف هار‏.‏

واختلف القراء في إمالة ‏{‏هار‏}‏ و‏{‏انهار‏}‏، وتأسيس البناء على تقوى إنما هو بحسن النية فيه وقصد وجه الله تعالى وإظهار شرعه، كما صنع بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفي مسجد قباء‏.‏

والتأسيس ‏{‏على جرف هار‏}‏ إنما هو بفساد النية وقصد الرياء والتفريق بين المؤمنين، فهذه تشبيهات صحيحة بارعة، و‏{‏خير‏}‏ في هذه الآية تفضيل ولا شركة بين الأمرين في خير إلا على معتقد يأتي مسجد الضرار، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل، وقوله ‏{‏فانهار به في نار جهنم‏}‏ الظاهر منه وما صح من خبرهم وهدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجدهم أنه خارج مخرج المثل، أي مثل هؤلاء المضارين من المنافقين في قصدهم معصية الله وحصولهم من ذلك على سخطه كمن ينهار بنيانه في نار جهنم، ثم اقتضب الكلام اقتضاباً يدل عليه ظاهره، وقيل بل ذلك حقيقة وإن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم، قاله قتادة وابن جريج‏.‏

وروي عن جابر بن عبد الله وغيره أنه قال‏:‏ رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروي في بعض الكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه حين انهار حتى بلغ الأرض السابعة ففزع لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروي أنهم لم يصلوا فيه أكثر من ثلاثة أيام أكملوه يوم الجمعة وصلوا فيه يوم الجمعة وليلة السبت وانهار يوم الاثنين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله بإسناد لين، وما قدمناه أصوب وأصح، وكذلك بقي أمره والصلاة فيه من قبل سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك إلى أن يقبل صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏‏:‏ طعن على هؤلاء المنافقين وإشارة إليهم، والمعنى لا يهديهم من حيث هم الظالمون، أو يكون المراد الخصوص فيمن يوافي على ظلمه، وأسند الطبري عن خلف بن ياسين أنه قال‏:‏ رأيت مسجد المنافقين الذين ذكر الله في القرآن، فرأيت فيه مكاناً يخرج منه الدخان، وذلك في زمن أبي جعفر المنصور‏.‏

وروي شبيه بهذا أو نحوه عن ابن جريج أسنده الطبري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏110‏)‏ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏111‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏بنيانهم‏}‏ عائد على المنافقين البانين للمسجد ومن شاركهم في غرضهم، وقوله ‏{‏الذي بنوا‏}‏ تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع للإشكال، و«الريبة» الشك، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه والاعتراض في الشيء والتحفظ فيه والحزازة من أجله وإن لم يكن شكاً، فقد يرتاب من لا يشك، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك، ومعنى «الريبة» في هذه الآية أمر يعم الغيظ والحنق ويعم اعتقاد صواب فعلهم ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام، فمقصد الكلام لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقى في قلوبهم حزازة وأثر سوء، وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا، وفسرها السدي بالكفر، وقيل له أفكفر مجمع بن جارية‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكنها حزازة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومجمع رحمه الله قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم ولا قصد سوءاً، والآية إنما عنت من أبطن سوءاً فليس مجمع منهم، ويحتمل أن يكون المعنى لا يزالون مريبين بسبب بنائهم الذي اتضح فيه نفاقهم، وجملة هذا أن الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي «إلا أن تُقطع قلوبهم» بضم التاء وبناء الفعل للمفعول، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم بخلاف عن «إلا أن تَقطع» بفتح التاء على أنها فاعلة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب‏:‏ «إلى أن تقطع» على معنى إلى أن يموتوا، وقرأ بعضهم‏:‏ «إلى أن تقطع» وقرأ أبو حيوة «إلا أن يُقطِع» بالياء مضمومة وكسر الطاء ونصب «القلوبَ» أي بالقتل، وأما على القراءة الأولى فقيل بالموت قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم، وقيل، بالتوبة وليس هذا بالظاهر إلا أن يتأول‏:‏ أو يتوبوا توبة نصوحاً يكون معها من الندم والحسرة على الذنب ما يقطع القلوب هماً وفكرة، وفي مصحف ابن مسعود «ولو قطعت قلوبهم»، وكذلك قرأها أصحابه وحكاها أبو عمرو «وان قطَعت» بتخفيف الطاء، وفي مصحف أبيّ «حتى الممات» وفيه «حتى تقطع»، وقوله ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم‏}‏ الآية، هذه الآية نزلت في البيعة الثالثة وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين وكان أصغرهم سناً عقبة بن عمرو، وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة فقالوا‏:‏ اشترط لك ولربك، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة، فاشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم حمايته مما يحمون منه أنفسهم، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة، فقالوا‏:‏ ما لنا على ذلك‏؟‏ قال الجنة، فقالوا‏:‏ نعم ربح البيع لا نقيل ولا نقال، وفي بعض الروايات ولا نستقيل فنزلت الآية في ذلك‏.‏

ثم الآية بعد ذلك عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وقال بعض العلماء‏:‏ ما من مسلم إلا ولله في عنقه هذه البيعة وفى بها أو لم يف، وفي الحديث أن فوق كل بر براً حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك، وهذا تمثيل من الله عز وجل جميل صنعه بالمبايعة، وذلك أن حقيقة المبايعة أن تقع بين نفسين بقصد منهما وتملك صحيح، وهذه القصة وهب الله عباده أنفسهم وأموالهم ثم أمرهم ببذلها في ذاته ووعدهم على ذلك ما هو خير منها، فهذا غاية التفضل، ثم شبه القصة بالمبايعة، وأسند الطبري عن كثير من أهل العلم أنهم قالوا‏:‏ ثامن الله تعالى في هذه الآية عباده فأعلى لهم وقاله ابن عباس والحسن بن أبي الحسن، وقال ابن عيينة‏:‏ معنى الآية اشترى منهم أنفسهم ألا يعملوها إلا في طاعة الله، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل الله، ومبايعة الخلفاء هي منتزعة من هذه الآية، كان الناس يعطون الخلفاء طاعتهم ونصائحهم وجدهم ويعطيهم الخلفاء عدلهم ونظرهم والقيام بأمورهم، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه سمع الواعظ أبا الفضل بن الجوهري يقول على المنبر بمصر‏:‏ ناهيك من صفقة البائع فيها رب العلى والثمن جنة المأوى والواسطة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقوله ‏{‏يقاتلون في سبيل الله‏}‏ مقطوع ومستأنف وذلك على تأويل سفيان بن عيينة، وأما على تأويل الجمهور من أن الشراء والبيع إنما هو مع المجاهدين فهو في موضع الحال، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو والحسن وقتادة وأبو رجاء وغيرهم‏:‏ «فيَقتلون» على البناء للفاعل «ويُقتلون» على البناء للمفعول، وقرأ حمزة والكسائي والنخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش بعكس ذلك، والمعنى واحد إذ الغرض أن المؤمنين يقاتلون فيوجد فيهم من يَقتل وفيهم من يُقتل وفيهم من يجتمعان له وفيهم من لا تقع له واحدة منهما، وليس الغرض أن يجتمع ولا بد لكل واحد واحد، وإذا اعتبر هذا بان، وقوله سبحانه ‏{‏وعداً عليه حقاً‏}‏ مصدر مؤكد لأن ما تقدم من الآية هو في معنى الوعد فجاء هو مؤكداً لما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏بأن لهم الجنة‏}‏، وقال المفسرون‏:‏ يظهر من قوله‏:‏ ‏{‏في التوراة والإنجيل والقرآن‏}‏، أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن ميعاد أمة محمد صلى الله عليه وسلم تقدم ذكره في هذه الكتب، وقوله ‏{‏ومن أوفى بعهده من الله‏}‏ استفهام على جهة التقرير أي لا أحد أوفى بعهده من الله، وقوله ‏{‏فاستبشروا‏}‏ فعل جاء فيه استفعل بمعنى أفعل وليس هذا من معنى طلب الشيء، كما تقول‏:‏ استوقد ناراً واستهدى مالاً واستدعى نصراً بل هو كعجب واستعجب، ثم وصف تعالى ذلك البيع بإنه ‏{‏الفوز العظيم‏}‏، أي أنه الحصول على الحظ الأغبط من حط الذنوب ودخول الجنة بلا حساب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 113‏]‏

‏{‏التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏113‏)‏‏}‏

هذه الأوصاف هي من صفات المؤمنين الذين ذكر الله أنه اشترى منهم أنفسهم، وارتفعت هذه الصفات لما جاءت مقطوعة في ابتداء آية على معنى‏:‏ «هم التائبون»، ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى رتبة والآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات التي هي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها وقالت فرقة‏:‏ بل هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط، والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنين الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله، وأسند الطبري في ذلك عن الضحاك بن مزاحم أن رجلاً سأله عن قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الله اشترى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏ وقال الرجل ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل، فقال الضحاك‏:‏ ويلك أين الشرط ‏{‏التائبون العابدون‏}‏ الآية، وهذا القول تحريج وتضييق والله أعلم، والأول أصوب، والشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد، وقد روي أن الله تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه ختم الله لنا بالحسنى، وقالت فرقة‏:‏ إن رفع «التائبين» إنما هو على الابتداء وما بعده صفة، ألا قوله ‏{‏الآمرون‏}‏ فإنه خبر الابتداء كأنه قال «هم الآمرون» وهذا حسن إلا أن معنى الآية ينفصل من معنى التي قبلها وذلك قلق فتأمله، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «التائبين العابدين» إلى آخرها، ولذلك وجهان أحدهما‏:‏ الصفة للمؤمنين على اتباع اللفظ والآخر النصب على المدح، و‏{‏التائبون‏}‏ لفظ يعم الرجوع من الشر إلى الخير كان ذلك من كفر أو معصية والرجوع من حالة إلى ما هي أحسن منها، وإن لم تكن الأولى شراً بل خيراً، وهكذا توبة النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره سبعين مرة في اليوم، والتائب هو المقلع عن الذنب العازم على التمادي على الإقلاع النادم على ما سلف، والتائب عن ذنب يسمى تائباً وإن قام على غيره إلا أن يكون من نوعه فليس بتائب والتوبة ونقضها دائباً خير من الإصرار، ومن تاب ثم نقض ووافى على النقض فإن ذنوبه الأولى تبقى عليه لأن توبته منها علم الله أنها منقوضة، ويحتمل الأمر غير ذلك والله أعلم‏.‏

وقال الحسن في تفسير الآية‏:‏ ‏{‏التائبون‏}‏ معناه من الشرك، و‏{‏العابدون‏}‏ لفظ يعم القيام بعبادة الله والتزام شرعه وملازمة ذلك والمثابرة عليه والدوام، والعابد هو المحسن الذي فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله،

«أن تعبد الله كأنك تراه» الحديث، وبأدنى عبادة يؤديها المرء المسلم يقع عليه اسم عابد ويحصل في أدنى رتبته وعلى قدر زيادته في البادة يحصل الوصف، و‏{‏الحامدون‏}‏ معناه‏:‏ الذاكرون لله بأوصافه الحسنى في كل حال وعلى السراء والضراء وحمده لأنه أهل لذلك، وهو أعم من الشكر إذ الشكر إنما هو على النعم الخاصة بالشاكر، و‏{‏السائحون‏}‏ معناه الصائمون، وروي عن عائشة أنها قالت‏:‏ سياحة هذه الأمة الصيام، وأسند الطبري وروي أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث «إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغوني صلاة أمتي عليَّ» ويروى الحديث «صياحين» بالصاد من الصياح والسياحة في الأرض مأخوذ من السيح وهو الماء الجاري على الأرض إلى غير غاية، وقال بعض الناس وهو في كتاب النقاش‏:‏ ‏{‏السائحون‏}‏ هم الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته، وهذا قول حسن وهي من أفضل العبادات، ومن ذلك قول معاذ بن جبل‏:‏ اقعد بنا نؤمن ساعة، ويروى أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وجعل يفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال‏:‏ أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 71‏]‏ وفكرت كي أتلقى الغل وبقيت في ذلك ليلي أجمع، و‏{‏الراكعون الساجدون‏}‏ هم المصلون الصلوات الخمس كذا قال أهل العلم، ولكن لا يختلف في أن من يكثر النوافل هو أدخل في الاسم وأغرق في الاتصاف، وقوله‏:‏ ‏{‏الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر‏}‏ هو أمر فرض على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجملة ثم يفترق الناس فيه مع التعيين، فأما ولاة الأمر والرؤساء فهو فرض عليهم في كل حال، وأما سائر الناس فهو فرض عليهم بشروط‏:‏ منها أن لا تلحقه مضرة وأن يعلم أن قوله يسمع ويعمل به ونحو هذا ثم من تحمل بعد في ذات الله مشقة فهو أعظم أجراً، وأسند الطبري عن بعض العلماء أنه قال‏:‏ حيثما ذكر الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو الأمر بالإسلام والنهي عن الكفر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا شك أنه يتناول هذا وهو أحرى، إذ يتناول ما دونه فتعميم اللفظ أولى، وأما هذه الواو التي في قوله ‏{‏والناهون‏}‏ ولم يتقدم في واحدة من الصفات قبل فقيل معناها الربط بين هاتين الصفتين وهي «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» إذ هما من غير قبيل الصفات الأول‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ لأن الأول فيما يخص المرء، وهاتان بينه وبين غيره، ووجب الربط بينهما لتلازمهما وتناسبهما، وقيل هي زائدة وهذا قول ضعيف لا معنى له، وقيل هي واو الثمانية لأن هذه الصفة جاءت ثامنة في الرتبة ومن هذا قوله في أبواب الجنة ‏{‏وفتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وقوله ‏{‏وثامنهم كلبهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ ومن هذا قوله ‏{‏ثيبات وأبكاراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ على أن هذه تعترض حتى لا يلزم أن يكون واو ثمانية، لأنها فرقت بين فصلين يعمان بمجموعهما جميع النساء، ولا يصح أن يكون ‏{‏ثيبات أبكاراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏، فهي فاصلة ضرورة، وواو الثمانية قد ذكرها ابن خالويه، في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله ‏{‏وفتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏، وأنكرها أبو علي، وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ أبي عبد الله الكفيف المالقي وكان ممن استوطن غرناطة وقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال‏:‏ هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة، فهكذا هي لغتهم، ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو، وقوله ‏{‏والحافظون لحدود لله‏}‏ لفظ عام تحته إلزام الشريعة والانتهاء عما نهى الله في كل شيء وفي كل فن، وقوله ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ قيل هو لفظ عام أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر أمته جميعاً بالخير من الله، وقيل بل هذه الألفاظ خاصة لمن لم يغز أي لما تقدم في الآية وعد المجاهدين وفضلهم أمر أن يبشر سائر الناس ممن لم يغز بأن الإيمان مخلص من النار والحمد لله رب العالمين، وقوله تعالى ‏{‏ما كان للنبي‏}‏ الآية، يقتضي التأنيب ومنع الاستغفار للمشركين مع اليأس عن إيمانهم إما بموافاتهم على الكفر وموتهم، ومنه قول عمر بن الخطاب في العاصي بن وائل لا جزاه الله خيراً، وإما بنص من الله تعالى على أحد كأبي لهب وغيره فيمتنع الاستغفار له وهو حي، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية فقال الجمهور ومداره على ابن المسيب وعمرة بن دينار، نزلت في شأن أبي طالب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه حين احتضر ووعظه وقال‏:‏ أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله تعالى، وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أمية، فقالا له‏:‏ يا أبا طالب أترغب عن ملك عبد المطلب، فقال أبو طالب‏:‏ يا محمد والله لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك ثم قال‏:‏ أنا على ملة عبد المطلب، ومات على ذلك، إذ لم يسمع منه النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله للعباس، فنزلت‏:‏

‏{‏إنك لا تهدي من أحببت‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 65‏]‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار لأبي طالب، وروي أن المؤمنين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم، فلذلك دخلوا في التأنيب والنهي‏.‏

والآية على هذا ناسخة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ أفعاله في حكم الشرع المستقر وقال فضيل بن عطية وغيره‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أتى قبر أمه فوقف عليه حتى سخنت عليه الشمس، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار لها، فلم يؤذن له فأخبر أصحابه أنه أذن له في زيارة قبرها، ومنع أن يستغفر لها، فما رئي باكياً أكثر من يومئذ، ونزلت الآية في ذلك وقالت فرقة‏:‏ إنما نزلت بسبب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين‏:‏ والله لأزيدن على السبعين، وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما‏:‏ إنما نزلت بسبب جماعة من المؤمنين قالوا‏:‏ نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه فنزلت الآية في ذلك، وعلى كل حال ففي ورود النهي عن الاستغفار للمشركين موضع اعتراض بقصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه، فنزل رفع ذلك الاعتراض في الآية التي بعدها، وقوله ‏{‏من بعد ما تبين‏}‏ يريد من بعد الموت على الكفر فحينئذ تبين أنهم أصحاب الجحيم أي سكانها وعمرتها، والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه ومن هذا قول أبي هريرة رضي الله عنه رحم الله رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه، قيل له ولأبيه قال‏:‏ لا، إن أبي مات كافراً، وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ الآية في النهي عن الصلاة على المشركين، والاستغفار ها هنا يراد به الصلاة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 116‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ‏(‏114‏)‏ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏116‏)‏‏}‏

المعنى لا حجة أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن موعدة، واختلف في ذلك فقيل عن موعدة من إبراهيم في أن يستغفر لأبيه وذلك قوله ‏{‏سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 47‏]‏، وقيل عن موعدة من أبيه له في أنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه فحمله على الاستغفار له حتى نهي عنه، وقرأ طلحة‏:‏ «وما يستغفر إبراهيم وروي عنه» وما استغفر إبراهيم «، و‏{‏موعدة‏}‏ مفعلة من الوعد، وأما تبينه أنه عدو لله قيل ذلك بموت آزر على الكفر وقيل ذلك بأنه نهي عنه وهو حي‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ذلك كله يوم القيامة وذلك أن في الحديث أن إبراهيم يلقاه فيعرفه ويتذكر قوله‏:‏ ‏{‏سأستغفر لك ربي‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 47‏]‏ فيقول له الزم حقوي فلن أدعك اليوم لشيء، فيلزمه حتى يأتي الصراط فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعاناً أمذر فيتبرأ منه حينئذ‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وربط أمر الاستغفار بالآخرة ضعيف، وقوله ‏{‏إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏ ثناء من الله تعالى على إبراهيم، و» الأواه «قال ابن مسعود هو الدعّاء، وقيل هو الداعي بتضرع، وقيل هو الموقن قاله ابن عباس، وقيل هو الرحيم قاله ابن مسعود أيضاً، وقيل هو المؤمن التواب، وقيل هو المسبح وقيل هو الكثير الذكر لله عز وجل، وقيل هو التلاّء للقرآن، وقيل هو الذي يقول من خوفه لله عز وجل أبداً أوه ويكثر ذلك‏.‏

وروي أن أبا ذر سمع رجلاً يكثر ذلك في طوافه فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏» دعه فإنه أواه «‏.‏

والتأوه التفجع الذي يكثر حتى ينطق الإنسان معه، ب» أوه «، ويقال أوه فمن الأول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال في بيع أو شراء أنكره عليه‏:‏ أوه، ذلك الربا بعينه ومن الثاني قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها *** ومن بعد أرض بيننا وسماء

ومن هذا المعنى قول المثقب العبدي‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

إذا ما قمت أرحلُها بليلٍ *** تأوَّه آهة الرجل الحزين

ويروى آهة، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم،» أوه لأفراخ محمد «، و‏{‏حليم‏}‏ معناه صابر محتمل عظيم العقل، والحلم العقل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليضل قوماً‏}‏ الآية معناه التأنيس للمؤمنين، وقيل‏:‏ إن بعضهم خاف على نفسه من الاستغفار للمشركين دون أمر من الله تعالى فنزلت الآية مؤنسة، أي ما كان الله بعد أن هدى إلى الإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمواقعتهم ذنباً لم يتقدم منه نهي عنه، فأما إذا بين لهم ما يتقون من الأمور ويتجنبون من الأشياء فحينئذ من واقع بعد النهي استوجب العقوبة، وقيل‏:‏ إن هذه الآية إنما نزلت بسبب قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا غيباً فحولت القبلة فصلوا قبل أن يصلهم ذلك إلى بيت المقدس، وآخرين شربوا الخمر بعد تحريمها قبل أن يصل إليهم، فخافوا على أنفسهم وتكلموا في ذلك فنزلت الآية، والقول الأول أصوب وأليق بالآية، وذهب الطبري إلى أن قوله، ‏{‏يحيي ويميت‏}‏ إشارة إلى أنها يجب أيها المؤمنون ألا تجزعوا من عدو وإن كثر، ولا تهابوا أحداً فإن الموت المخوف والحياة المحبوبة إنما هما بيد الله تعالى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمعنى الذي قال صحيح في نفسه ولكن قوله، إن القصد بالآية إنما هو لهذا قول يبعد، والظاهر في الآية إنما هو لما نص في الآية المتقدمة نعمته وفضله على عبيده في أنه متى منّ عليهم بهداية ففضله أسبغ من أن يصرفهم ويضلهم قبل أن تقع منهم معصية ومخالفة أمر أتبع ذلك بأوصاف فيها تمجيد الله عز وجل وتعظيمه وبعث النفوس على إدمان شكره والإقرار بعبوديته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 119‏]‏

‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏117‏)‏ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏118‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

«التوبة» من الله رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها، فقد تكون في الأكثر رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رجع به من حاله قبل تحصيل الغزوة وأجرها وتحمل مشقاتها إلى حاله بعد ذلك كله، وأما توبته عل «المهاجرين والأنصار» فحالها معرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين، وأما توبته على الفريق الذي كاد أن يزيغ فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا، و‏{‏اتبعوه‏}‏ معناه‏:‏ دخلوا في أمره وانبعاثه ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، وقوله ‏{‏في ساعة العسرة‏}‏، يريد في وقت العسرة فأنزل الساعة منزلة المدة والوقت والزمن، وإن كان عرف الساعة في اللغة أنه لما قلَّ من الزمن كالقطعة من النهار‏.‏

ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في رواح يوم الجمعة «في الساعة الأولى وفي الثانية» الحديث، فهي هنا بتجوز، ويمكن أن يريد بقوله ‏{‏في ساعة العسرة‏}‏ الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة وبها وفيها يقع الأجر على الله، وترتبط النية، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد اتبع في ساعة العسرة ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرتهم لما اختل كونهم متبعين «في ساعة عسرة» و‏{‏العسرة‏}‏ الشدة وضيق الحال والعدم، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 280‏]‏ وهذا هو جيش العسرة الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏ «من جهز جيش العسرة فله الجنة» فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف جمل وألف دينار‏.‏

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلب الدنانير بيده وقال‏:‏ «وما على عثمان ما عمل بعد هذا»، وجاء أيضاً رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر، وقال مجاهد وقتادة‏:‏ إن العسرة بلغت بهم في تلك الغزوة وهي غزوة تبوك إلى أن قسموا التمرة بين رجلين، ثم كان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمضغها أحدهم ويشرب عليها الماء ثم يفعل كلهم بها ذلك‏.‏

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ وأصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ويعصرون الفرث حتى استسقى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه يدعو فما رجعهما حتى انسكبت سحابة فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر، وحينئذ قال رجل من المنافقين‏:‏ وهل هذه إلا سحابة مرت، وكانت الغزوة في شدة الحر، وكان الناس كثيراً، فقل الظهر فجاءتهم العسرة من جهات، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرج وأيلة وغيرهما على الجزية ونحوهما، وانصرف وأما «الزيغ» الذي كادت قلوب فريق منهم أن تواقعه، فقيل همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة والعسرة، قاله الحسن، وقيل زيغها إنما بظنون لها ساءت في معنى عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الغزوة لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد المشقة وقوة العدو المقصود، وقرأ جمهور الناس وأبو بكر عن عاصم «تزيغ» بالتاء من فوق على لفظ القلوب‏.‏

وروي عن أبي عمرو أنه كان يدغم الدال في التاء، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم والأعمش والجحدري «يزيغ» بالياء على معنى جمع القلوب، وقرأ ابن مسعود «من بعد ما زاغت قلوب فريق» وقرأ أبي بن كعب «من بعد ما كادت تزيغ» وأما كان فيحتمل أن يرتفع بها ثلاثة أشياء أولها وأقواها القصة والشأن هذا مذهب سيبويه، وترتفع «القلوبُ» على هذا ب «تزيغ» والثاني أن يرتفع بها ما يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار أولاً، ويقدر ذلك القوم فكأنه قال من بعد ما كاد القوم تزيغ قلوبهم فريق منهم، والثالث أن يرتفع بها «القلوب» ويكون في قوله «تزيغ» ضمير «القلوب»، وجاز ذلك تشبيهاً بكان في قوله ‏{‏وكان حقاً علينا نصر المؤمنين‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 47‏]‏ وأيضاً فلأن هذا التقديم للخبر يراد به التأخير، وشبهت ‏{‏كاد‏}‏ ب «كان» للزوم الخبر لها، قال أبو علي ولا يجوز ذلك في عسى‏.‏

ثم أخبر عز وجل أنه تاب أيضاً على هذا الفريق وراجع به، وأنس بإعلامه للأمة بأنه ‏{‏رؤوف رحيم‏}‏ والثلاثة هم كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري ويقال ابن ربيعة ويقال ابن ربعي، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير، فلذلك اختصرنا سوقه، وهم الذين تقدم فيهم ‏{‏وآخرون مرجون‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 106‏]‏، ومعنى ‏{‏خلفوا‏}‏ آخروا وترك أمرهم ولم تقبل منهم معذرة ولا ردت عليهم، فكأنهم خلفوا عن المعتذرين، وقيل معنى ‏{‏خلفوا‏}‏ أي عن غزوة تبوك، قاله قتادة وهذا ضعيف وقد رده كعب بن مالك بنفسه وقال‏:‏ معنى ‏{‏خلفوا‏}‏ تركوا عن قبول العذر وليس بتخلفنا عن الغزو، ويقوي من اللفظة جعله إذا ضاقت غاية للتخليف ولم يكن ذلك عن تخليفهم عن الغزو، وإنما ضاقت عليهم الأرض عن تخليفهم عن قبول العذر، وقرأ الجمهور «خُلِّفوا» بضم الخاء وشد اللام المكسورة، وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي وزر بن حبيش وعمرو بن عبيد وأبو عمرو أيضاً «خَلَفوا» بفتح الخاء واللام غير مشددة، وقرأ أبو مالك «خُلِفوا» بضم الخاء وتخفيف اللام المكسورة، وقرأ أبو جعفر محمد بن علي وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد وأبو عبد الرحمن «خالفوا» والمعنى قريب من التي قبلها، وقال أبو جعفر ولو خلفوا لم يكن لهم ذنب، وقرأ الأعمش «وعلى الثلاثة المخلفين»، وقوله‏:‏ ‏{‏بما رحبت‏}‏ معناه برحبها كأنه قال‏:‏ على ما هي في نفسها رحبة، ف «ما» مصدرية، ‏{‏وضاقت عليهم أنفسهم‏}‏ استعارة لأن الغم والهم ملأها ‏{‏وظنوا‏}‏ في هذه الآية بمعنى أيقنوا وحصل علم لهم وقوله‏:‏ ‏{‏ثم تاب عليهم ليتوبوا‏}‏ لما كان هذا القول في تعديد نعمه بدا في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله عز وجل ليكون ذلك منبهاً على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره، ولو كان القول في تعدد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال الله تعالى‏:‏

‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏ ليكون هذا أشد تقريراً للذنب عليهم، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه، وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها إنما يكمل مع مطالعة حديث «الثلاثة» الذين خلفوا في الكتب التي ذكرنا، وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأن الشرع يطلبهم من الجد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه إذ هم أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين، إذ كان كعب من أهل العقبة وصاحباه من أهل بدر‏.‏

وفي هذا يقتضي أن الرجل العالم والمقتدي به أقل عذراً في السقوط من سواه، وكتب الأوزاعي رحمه الله إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة‏:‏ واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظماً ولا طاعته إلا وجوباً ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكاراً والسلام، ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

والعيب يعلق بالكبير كبير *** وفي بعض طرق حديث «الثلاثة» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ليلة نزول توبتهم في بيت أم سلمة، وكانت لهم صالحة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أمَّ سلمة‏:‏ تيب على كعب بن مالك وصاحبيه»، فقالت يا رسول الله ألا أبعث إليهم‏؟‏ فقال «إذاً يحطمكم الناس سائر الليلة فيمنعوكم النوم»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏ هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين، فجاء هذا الأمر اعتراضاً في أثناء الكلام إذ عن في القصة ما يجب التنبيه علي امتثاله، وقال ابن جريج وغيره‏:‏ الصدق في هذه الآية هو صدق الحديث، وقال نافع والضحاك ما معناه‏:‏ إن اللفظ أعم من صدق الحديث، وهو بمعنى الصحة في الدين والتمكن في الخير، كما تقول العرب‏:‏ عود صدق ورجل صدق، وقالت هذه الفرقة‏:‏ كونوا مع محمد وأبي بكر وعمر وأخيار المهاجرين الذين صدقوا الله في الإسلام ومع في هذه الآية تقتضي الصحبة في الحال والمشاركة في الوصف المقتضي للمدح، وقرأ ابن مسعود وابن عباس «وكونوا من الصادقين»، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابن مسعود رضي الله عنه يتأوله في صدق الحديث‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، اقرأوا إن شئتم ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 121‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏120‏)‏ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

هذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوه، وقوة الكلام تعطى الأمر بصحبته إلى توجهه غازياً وبذل النفوس دونه، واختلف المتأولون فقال قتادة‏:‏ كان هذا الإلزام خاصاً مع النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب النفر إلى الغزو إذا خرج هو بنفسه ولم يبق هذا الحكم مع غيره من الخلفاء، وقال زيد بن أسلم‏:‏ كان هذا الأمر والإلزام في قلة الإسلام والاحتياج إلى اتصال الأيدي ثم نسخ عند قوة الإسلام بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 112‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله في الأنبعاث إلى غزو العدو على الدخول في الإسلام، وأما إذا ألم العدو بجهة فمتعين على كل أحد القيام بذبه ومكافحته، وأما قوله تعالى ‏{‏ولا يرغبوا بأنفسهم‏}‏ فمعناه أن لا يحتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الله مشقة ويجود بنفسه في سبيل الله فيقع منهم شح على أنفسهم ويكعون عما دخل هو فيه، ثم ذكر تعالى لِمَ لَمْ يكن لهم التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم‏}‏‏.‏‏.‏ الآية و«النصب» التعب‏.‏ ومنه قول النابغة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كليني لهم يا أميمة ناصبِ *** أي ذي نصب‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 62‏]‏ و«المخمصة» مفعلة من خموص البطن وهي ضموره، واستعير ذلك لحالة الجوع إذ الخموص ملازم له، ومن ذلك قول الأعشى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم *** وجاراتكم غرثى يبتنَ خمائصا

ومنه أخمص القدم والخمصانة من النساء، وقوله تعالى ‏{‏ولا يطؤون موطئاً‏}‏ أي ولا ينتهون من الأرض منتهى مؤذياً للكفار، وذلك هو الغائظ ومنه في المدونة كنا لا نتوضأ من موطئ من قول ابن مسعود، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا ينالون من عدو نيلاً‏}‏ لفظ عام لقليل ما يصنعه المؤمنون بالكفرة من أخذ مال أو إيراد هوان وكثيره، والنيل مصدر نال ينال وليس من قولهم نلت أنوله نولاً ونوالاً وقيل هو منه، وبدلت الواو ياء لخفتها هنا وهذا ضعيف، والطبري قد ذكر نحوه وضعفه وقال ليس ذلك المعروف من كلام العرب، وقوله ‏{‏ولا ينفقون‏}‏ الآية، قدم الصغيرة للاهتمام أي إذا كتبت الصغيرة فالكبيرة أحرى، و«الوادي» ما بين جبلين كان فيه ماء أو لم يكن، وجمعه أودية، وليس في كلام العرب فاعل وأفعلة إلا في هذا الحرف وحده، وفي الحديث «ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعداً إلا ازدادوا من الله قرباً»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 123‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ‏(‏122‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

قالت فرقة‏:‏ سبب هذه الآية أن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكاناً ومبعوثين لتعليم الشرع لما سمعوا قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 62‏]‏ أهمهم ذلك فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا مذنبين في التخلف عن الغزو فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك، وقالت فرقة، سبب هذه الآية أن المنافقين لما نزلت الآيات في المتخلفين قالوا هلك أهل البوادي فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فيجيء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لأهل المدينة ومن حولهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 62‏]‏ عموم في اللفظ والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر، وتجيء هذه الآية مبينة لذلك مطردة الألفاظ متصلة المعنى من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لأهل المدينة‏}‏ إلى قوله ‏{‏يحذرون‏}‏ بين في آخر الآية العموم الذي في أولها إذ هو معرض أن يتأول فيه ألا يتخلف بشر، و«التفقه» هو من النافرين، و«الإنذار» هو منهم، والضمير في ‏{‏رجعوا‏}‏ لهم أيضاً، وقالت فرقة هذه‏:‏ الآية ليست في معنى الغزو وإنما سببها أن قبائل من العرب لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أصابتهم مجاعة وشدة، فنفروا إلى المدينة لمعنى المعاش فكادوا أن يفسدوها، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان وإنما أضرعه الجوع فنزلت الآية في ذلك، فقال وما كان من صفته الإيمان لينفر مثل هذا النفر أي ليس هؤلاء المؤمنين، وقال ابن عباس ما معناه‏:‏ إن هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا، والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، وهذه ثابتة الحكم مع تخلفه أي يجب إذا تخلف ألا ينفر الناس كافة فيبقى هو منفرداً وإنما ينبغي أن تنفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الباقية في الدين، وينذروا النافرين إذا رجع النافرون إليهم، وقالت فرقة‏:‏ هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير والقتال، والضمير في قوله ‏{‏ليتفقهوا‏}‏ عائد أيضاً على هذا التأويل على الطائفة المتخلفة مع النبي صلى عليه وسلم، وهو القول الأول في ترتيبنا هذا عائد على الطائفة النافرة، وكذلك يترتب عوده مع بعض الأقوال على هذه ومع بعضها على هذه، والجمهور على أن «التفقة» إنما بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته، وقالت فرقة يشبه أن يكون «التفقه» في الغزو في السرايا لما يرون من نصرة الله لدينه وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من الكافرين وعلمهم بذلك صحة دين الإسلام ومكانته في الله تعالى، ورجحه الطبري وقواه، والآخر أيضاً قوي، والضمير في قوله ‏{‏لينذروا‏}‏ عائد على المتفقهين بحسب الخلاف، و«الإنذار» عام للكفر والمعاصي والحذر منها أيضاً كذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‏}‏ الآية، قيل هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول يضعفه هذه الآية من آخر ما نزل، وقالت فرقة‏:‏ إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تجاوز قوماً من الكفار غازياً لقوم آخرين أبعد منهم، فأمر الله تعالى بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة، وقالت فرقة‏:‏ الآية مبينة صورة القتال كافة وهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة، ومعناها أن الله تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجنس الذي يصاقبه من الكفرة، وهذا هو القتال لكلمة الله ورد الناس إلى الإسلام، وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المسلمين كفاية عدو ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد، وقال قائلو هذه المقالة‏:‏ نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام لأنهم كانوا يومئذ العدو الذي يلي ويقرب إذ كانت العرب قد عمها الإسلام وكانت العراق بعيدة، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم وغيرهما من الأمم، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال‏:‏ عليك بالروم، وقال الحسن‏:‏ هم الروم والديلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يعني في زمنه ذلك، وقاله علي بن الحسين، وقال ابن زيد‏:‏ المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ إلى قوله ‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏، وقرأ جمهور الناس «غِلظة» بكسر الغين، وقرأ المفضل عن عاصم والأعمش «غَلظة» بفتحها، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبان بن ثعلبة وابن أبي عبلة «غُلظة» بضمها، وهي قراءة أبي حيوة ورواها المفضل عن عاصم أيضاً، قال أبو حاتم رويت الوجوه الثلاثة عن أبي عمرو، وفي هاتين القراءتين شذوذ وهي لغات، ومعنى الكلام وليجدوا فيكم خشونة وبأساً، وذلك مقصود به القتال، ومنه ‏{‏عذاب غليظ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 17، لقمان‏:‏ 24، فصلت‏:‏ 50، هود‏:‏ 58‏]‏ و‏{‏غليظ القلب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 129‏]‏ و‏{‏غلاظ شداد‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏ في صفة الزبانية، وغلظت علينا كبده في حفر الخندق إلى غير ذلك، ثم وعد تعالى في آخر الآية وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا وبها يلقى العدو، وقد قال بعض الصحابة‏:‏ إنما تقاتلون الناس بأعمالكم وأهلها هم المجدون في طرق الحق فوعد تعالى أنه مع أهل التقوى ومن كان الله معه فلن يغلب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 126‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏124‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏125‏)‏ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

هذه الآية نزلت في شأن المنافقين، والضمير في قوله ‏{‏فمنهم‏}‏ عائد على المنافقين، وقوله تعالى ‏{‏أيكم زادته هذه إيماناً‏}‏ يحتمل أن يكون لمنافقين مثلهم، ويحتمل أن يكون لقوم من قراباتهم من المؤمنين يستنيمون إليهم وثقون بسترهم عليهم ويطعمون في ردهم إلى النفاق، ومعنى ‏{‏أيكم زادته هذه إيماناً‏}‏ الاستخفاف والتحقير لشأن السورة كما تقول أي غريب في هذا أو أي دليل، ثم ابتدأ عز وجل الرد عليهم والحكم بما يهدم لبسهم فأخبر أن المؤمنين الموقنين قد «زادتهم إيماناً» وأنهم ‏{‏يستبشرون‏}‏ من ألفاظها ومعانيها برحمة الله ورضوانه، والزيادة في الإيمان موضع تخبط للناس وتطويل، وتلخيص القول فيه أن الإيمان الذي هو نفس التصديق ليس مما يقبل الزيادة والنقص في نفسه، وإنما تقع الزيادة في المصدق به، فإذا نزلت سورة من الله تعالى حدث للمؤمنين بها تصديق خاص لم يكن قبل، فتصديقهم بما تضمنته السورة من إخبار وأمر ونهي أمر زائد على الذي كان عندهم قبل، فهذا وجه من زيادة الإيمان، ووجه آخر أن السورة ربما تضمنت دليلاً أو تنبيهاً عليه فيكون المؤمن قد عرف الله بعدة أدلة، فإذا نزلت السورة زادت في أدلته، وهذه أيضاً جهة أخرى من الزيادة، وكلها خارجة عن نفس التصديق إذا حصل تاماً، فإنه ليس يبقى فيه موضع زيادة، ووجه آخر من وجوه الزيادة أن الرجل ربما عارضه شك يسير أو لاحت له شبهة مشغبة فإذا نزلت السورة ارتفعت تلك الشبهة واستراح منها، فهذا أيضاً زيادة في الإيمان إذ يرتقي اعتقاده عن مرتبة معارضة تلك الشبهة إلى الخلوص منها، وأما على قول من يسمي الطاعات إيماناً وذلك مجاز عند أهل السنة فتترتب الزيادة بالسورة إذ تتضمن أوامر ونواهي وأحكاماً، وهذا حكم من يتعلم العلم في معنى زيادة الإيمان ونقصانه إلى يوم القيامة، فإن تعلم الإنسان العلم بمنزلة نزول سورة القرآن و‏{‏الذين في قلوبهم مرض‏}‏ هم المنافقون، وهذا تشبيه وذلك أن السالم المعتقد المنشرح الصدر بالإيمان يشبهه الصحيح، والفاسد المعتقد يشبهه المريض، ففي العبارة مجاز فصيح لأن المرض والصحة إنما هي خاصة في الأعضاء، فهي في المعتقدات مجاز، و«الرجس» في هذه الآية عبارة عن حالهم التي جمعت معنى الرجس في اللغة، وذلك أن الرجس في اللغة يجيء بمعنى القذر ويجيء بمعنى العذاب، وحال هؤلاء المنافقين هي قذر وهي عذاب عاجل كفيل بآجل، وزيادة «الرجس إلى الرجس» هي عمههم في الكفر وخبطهم في الضلال يعاقبهم الله على الكفر والإعراض بالختم على قلوبهم والختم بالنار عليهم، وإذ كفروا بسورة فقد زاد كفرهم فلذلك زيادة رجس إلى رجسهم، وقوله‏:‏ ‏{‏أولا يرون أنهم يفتنون‏}‏ الآية، وقرأ الجمهور «أولا يرون» بالياء على معنى أو لا يرى المنافقون، وقرأ حمزة «أولا ترون» بالتاء على معنى أو لا ترون أيها المؤمنون، فهذا تنبيه للمؤمنين، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب والأعمش «أولا ترى» أي أنت يا محمد‏.‏

وروي عن الأعمش أيضاً أنه قرأ «أو لم تروا»‏.‏

وذكر عنه أبو حاتم «أو لم تر» وقال مجاهد ‏{‏يفتنون‏}‏ معناه يختبرون بالسنة والجوع، وحكى عنه النقاش أنه قال مرضة أو مرضتين، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة‏:‏ معناه يختبرون بالأمر بالجهاد، والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله تعالى أسرارهم وإفشائه عقائدهم، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة، وأما الجهاد أو الجوع فلا يترقب معهما ما ذكرناه، فمعنى الآية على هذا فلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون ويتذكرون وعد الله ووعيده، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين وقد كان الحسن ينشد‏:‏

أفي كل عام مرضة ثم نقهة *** فحتى متى حتى حتى متى وإلى متى

وقالت فرقة‏:‏ معنى ‏{‏يفتنون‏}‏ بما يشيعه المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأكاذيب، فكأن الذي في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك، وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة وهو غريب من المعنى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 129‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏127‏)‏ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏128‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏129‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏بعضهم‏}‏ عائد على المنافقين، والمعنى وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أسرارهم ‏{‏نظر بعضهم إلى بعض‏}‏ على جهة التقريب، يفهم من تلك النظرة التقرير‏:‏ هل معكم من ينقل عنكم‏؟‏ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم‏؟‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم انصرفوا‏}‏ معناه عن طريق الاهتداء‏.‏ وذلك أنهم حين ما يبين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة ذلك، فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون فيه كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء، وابتدئ بالفعل المسند إليهم إذ هو تعديد ذنب على ما قد بيناه، وقوله ‏{‏صرف الله قلوبهم‏}‏ يحتمل أن يكون دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبراً أي استوجبوا ذلك ‏{‏بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏ أي لا يفهمون عن الله ولا عن رسوله، وأسند الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوماً انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قضينا الصلاة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا النظر الذي في هذه الآية هو إيماء، وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال‏:‏ نظر في هذه الآية في موضع قال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم‏}‏ مخاطبة للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك، إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به غابر الأيام، وقال الزجّاج‏:‏ هي مخاطبة لجميع العالم، والمعنى لقد جاءكم رسول من البشر والأول أصوب، وقوله ‏{‏من أنفسكم‏}‏ يقتضي مدحاً لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وشرفها، وينظر إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم»، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني من نكاح ولست من سفاح» معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من من نكاح ولم يكن فيه زنى، وقرأ عبد الله بن قسيط المكي «من أنفَسكم» بفتح الفاء من النفاسة، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها، ذكر أبو عمرو أن ابن عباس رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله ‏{‏ما عنتم‏}‏ معناه عنتكم ف ‏{‏ما‏}‏ مصدرية وهي ابتداء، و‏{‏عزيز‏}‏ خبر مقدم، ويجوز أن يكون ‏{‏ما عنتم‏}‏ فاعلاً ب ‏{‏عزيز‏}‏ و‏{‏عزيز‏}‏ صفة للرسول، وهذا أصوب من الأول والعنت المشقة وهي هنا لفظة عامة أي ما شق عليكم من كفر وضلال بحسب الحق ومن قتل أو أسار وامتحان بسبب الحق واعتقادكم أيضاً معه، وقال قتادة‏:‏ المعنى عنت مؤمنيكم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتعميم عنت الجميع أوجه، وقوله‏:‏ ‏{‏حريص عليكم‏}‏ يريد على إيمانكم وهداكم، وقوله‏:‏ ‏{‏رؤوف‏}‏ معناه مبالغ في الشفقة، قال أبو عبيدة‏:‏ الرأفة أرق الرحمة، وقرأ «رؤف» دون مد الأعمش وأهل الكوفة وأبو عمرو ثم خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، بعد تقريره عليهم هذه النعمة فقال‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ يا محمد أي أعرضوا بعد هذه الحال المتقررة التي من الله عليهم بها ‏{‏فقل حسبي الله‏}‏ معناه وأعمالك بحسب قوله من التفويض إلى الله والتوكل عليه والجد في قتالهم، وليست بآية موادعة لأنها من آخر ما نزل، وخصص ‏{‏العرش‏}‏ بالذكر إذ هو أعظم المخلوقات، وقرأ ابن محيصن «العظيمُ» برفع الميم صفة للرب، ورويت عن ابن كثير، وهاتان الآيتان لم توجدا حين جمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت، ووقع في البخاري أو أبي خزيمة، فلما جاء بهما تذكرهما كثير من الصحابة، وقد كان زيد يعرفهما ولذلك قال‏:‏ فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئاً أم لا، فإنما ثبتت الآية بالإجماع لا بخزيمة وحده، أسند الطبري في كتابه قال‏:‏ كان عمر لا يثبت آية في المصحف إلا أن يشهد عليها رجلان، فلما جاء خزيمة بهاتين الآيتين قال‏:‏ والله لا أسألك عليهما بينة أبداً فإنه هكذا كان صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي تضمنتها الآية، وهذا والله أعلم قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ وفي مدة أبي بكر حين الجمع الأول وحينئذ فقدت الآيتان ولم يجمع من القرآن شيء في خلافة عمر، وخزيمة بن ثابت هو المعروف بذي الشهادتين، وعرف بذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمضى شهادته وحده في ابتياع فرس وحكم بها لنفسه صلى الله عليه وسلم، وهذا خصوص لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر النقاش عن أبيّ بن كعب أنه قال أقرب القرآن عهداً بالله تعالى هاتان الآيتان ‏{‏لقد جاءكم رسول‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

سورة يونس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

تقدم في أول سورة البقرة ذكر الاختلاف في فواتح السور، وتلك الأقوال كلها تترتب هنا، وفي هذا الموضع قول يختص به، قاله ابن عباس وسالم بن عبد الله وابن جبير والشعبي‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ ‏{‏حم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 1، فصلت‏:‏ 1، الشورى‏:‏ 1، الزخرف‏:‏ 1، الدخان‏:‏ 1، الجاثية‏:‏ 1، الأحقاف‏:‏ 1‏]‏ و‏{‏ن‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 1‏]‏ هو الرحمن قطع اللفظ في أوائل هذه السورة واختلف عن نافع في إمالة الراء والقياس أن لا يمال وكذلك اختلف القرّاء وعلة من أمال الراء أن يدل بذلك على أنها اسم للحرف وليست بحرف في نفسها وإنما الحرف «ر»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك‏}‏ قيل هو بمعنى هذه وقد يشبه أن يتصل المعنى ب ‏{‏تلك‏}‏ دون أن نقدرها بدل غيرها والنظر في هذه اللفظة إنما يتركب على الخلاف في فواتح السور فتدبره‏.‏ و‏{‏الكتاب‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ المراد به التوراة والإنجيل، وقال مجاهد أيضاً وغيره‏:‏ المراد به القرآن وهو الأظهر، و‏{‏الحكيم‏}‏ فعيل بمعنى محكم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هذا ما لدي عتيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 23‏]‏ أي معتد معد، ويمكن أن يكون «حكيم» بمعنى ذو حكمة فهو على النسب، وقال الطبري فهو مثل أليم بمعنى مؤلم ثم قال‏:‏ هو الذي أحكمه وبيّنه‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه‏:‏ فساق قولين على أنهما واحد، وقوله‏:‏ ‏{‏أكان للناس عجباً‏}‏ الآية، قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما نسبت هذه الآية أن قريشاً استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر، وقال الزجاج‏:‏ إنما عجبوا من إخباره أنهم يبعثون من القبور إذ النذارة والبشارة تتضمنان ذلك، وكثر كلامهم في ذلك حتى قال بعضهم‏:‏ أما وجد الله من يبعث إلا يتيم أبي طالب، ونحو هذا من الأقاويل التي اختصرتها لشهرتها فنزلت الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏أكان‏}‏ تقرير والمراد ب «الناس» قائلو هذه المقالة، و‏{‏عجباً‏}‏ خبر كان واسمها ‏{‏أن أوحينا‏}‏، وفي مصحف ابن مسعود «أكان للناس عجب» وجعل الخبر في قوله ‏{‏أن أوحينا‏}‏ والأول أصوب لأن الاسم معرفة والخبر نكرة وهذا القلب لا يصح ولا يجيء إلا شاذاً ومنه قول حسان‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

يكون مزاجها عسلٌ وماء *** ولفظة العجب هنا ليست بمعنى التعجب فقط بل معناه أوصل إنكارهم وتعجبهم إلى التكذيب‏؟‏ وقرأت فرقة «إلى رجل» بسكون الجيم، ثم فسر الوحي وقسمه عل النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين، و«القدم» هنا ما قدم، واختلف في المراد بها ها هنا فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وابن زيد‏:‏ هي الأعمال الصالحة من العبادات، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة‏:‏ هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال زيد بن أسلم وغيره‏:‏ هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم في موته، وقال ابن عباس أيضاً وغيره‏:‏ هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ، وهذا أليق الأقوال بالآية، ومن هذه اللفظة قول حسان‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لنا القدم العليا إليك وخلْفَنا *** لأوّلنا في طاعةِ اللهِ تابعُ

وقول ذي الرمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لكم قدم لا ينكر الناس أنها *** مع الحسب العادي طمت على البحر

ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم‏:‏ «حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط»، أي ما قدم لها من خلقه، هذا على أن الجبار اسم الله تعالى ومن جعله اسم جنس كأنه أراد الجبارين من بني آدم، ف «القدم» على التأويل الجارحة والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح، كما تقول رجل صدق ورجل سوء، وقوله ‏{‏قال الكافرون‏}‏ يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله أكان وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا، وذهب الطبري إلى أن في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا، وقرأ جمهور الناس وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر «إن هذا لسحر مبين»، وقرأ مسروق بن الأجدع وابن جبير والباقون من السبعة وابن مسعود وأبو رزين ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر بخلاف، وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «إنه لساحر» والمعنى متقارب، وفي مصحف أبي «قال الكافرون ما هذا إلا سحر مبين»، وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم وحال بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله الساحر فظنوه من ذلك الباب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

هذا ابتداء دعاء إلى عبادة الله عز وجل وإعلام بصفاته، والخطاب بها لجميع الناس، و‏{‏خلق السماوات والأرض‏}‏ هو على ما تقرر أن الله عز وجل خلق الأرض ‏{‏ثم استوى‏}‏ إلى السماء وهي دخان فخلقها، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وقوله ‏{‏في ستة أيام‏}‏ قيل هي من أيام الآخرة، وقال الجمهور، وهو الصواب‏:‏ بل من أيام الدنيا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك في التقدير لأن الشمس وجريها لم يتقدم حينئذ وقول النبي صلى الله عليه وسلم في خلق الله المخلوقات إن الله ابتدأ يوم الأحد كذا ويوم كذا كذا إنما هو على أن نقدر ذلك الزمان ونعكس إليه التجربة من حين ابتدأ ترتيب اليوم والليلة والمشهور أن الله ابتدأ بالخلق يوم الأحد، ووقع في بعض الأحاديث في كتاب مسلم وفي الدلائل أن البداءة وقعت يوم السبت وذكر بعض الناس أن الحكمة في خلق الله تعالى هذه الأشياء في مدة محدودة ممتدة وفي القدرة أن يقول كن فيكون إنما هو ليعلم عباده التؤدة والتماهل في الأمور‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا مما لا يوصل تعليله وعلى هذا هي الأجنة في البطون وخلق الثمار وغير ذلك والله عز وجل قد جعل لكل شيء قدراً وهو أعلم بوجه الحكمة وقوله ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ قد تقدم القول فيه في ‏{‏المص‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 1‏]‏ وقوله ‏{‏يدبر الأمر‏}‏ يصح أن يريد ب ‏{‏الأمر‏}‏ اسم الجنس من الأمور ويحتمل أن يريد ‏{‏الأمر‏}‏ الذي هو مصدر أمر يأمر، وتدبيره لا إله إلا هو إنما هو الإنفاذ لأنه قد أحاط بكل شيء علماً، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏يدبر الأمر‏}‏ معناه يقضيه وحده، وقوله ‏{‏ما من شفيع الا من بعد إذنه‏}‏ رد على العرب في اعتقادها أن الأصنام تشفع لها، وقوله ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة الى الله تعالى أي هذا الذي هذه صفاته فاعبدوه، ثم قررهم على هذه الآيات والعبر فقال ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ أي فيكون التذكر سبباً للاهتداء، واختصار القول في قوله ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ ‏[‏إما‏]‏ أن يكون ‏{‏استوى‏}‏ بقهره وغلبته وإما أن يكون ‏{‏استوى‏}‏ بمعنى استولى إن صحت اللفظة في اللسان، فقد قيل في قول الشاعر‏:‏

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

إنه بيت مصنوع‏.‏ وإما أن يكون فعل فعلاً في العرش سماه ‏{‏استوى‏}‏ واستعياب القول قد تقدم، وقوله ‏{‏إليه مرجعكم جميعاً‏}‏ الآية، آية إنباء بالبعث من القبور وهي من الأمور التي جوزها العقل وأثبت وقوعها الشرع، وقوله ‏{‏جميعاً‏}‏ الآية، حال من الضمير في ‏{‏مرجعكم‏}‏، ‏{‏وعد الله‏}‏ نصب على المصدر، وكذلك قوله ‏{‏حقاً‏}‏ وقال أبو الفتح ‏{‏حقاً‏}‏ نعت، وقرأ الجمهور «إنه» بكسر الألف على القطع والاستئناف، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب وعبد الله «أنه» بفتح الألف، وموضعها النصب على تقدير أحق أنه، وقال الفراء‏:‏ موضعها رفع على تقدير يحق أنه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يجوز عندي أن يكون ‏{‏أنه‏}‏ بدلاً من قوله ‏{‏وعد الله‏}‏، قال أبو الفتح‏:‏ إن شئت قدرت لأنه يبدأ الخلق أي فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد‏.‏ وإن شئت قدرته «وعد الله حقاً أنه» ولا يعمل فيه المصدر الذي هو ‏{‏وعد الله‏}‏ لأنه قد وصف فإذن ذلك بتمامه وقطع عمله، وقرأ ابن أبي عبلة «حقٌّ» بالرفع فهو ابتداء وخبره «أنه» وقوله ‏{‏يبدأ الخلق‏}‏ يريد النشأة الأولى، والإعادة هي البعث من القبور، وقرأ طلحة «يُبدِئ الخلق» بضم الياء وكسر الدال، وقوله ‏{‏ليجزي‏}‏ هي لام كي والمعنى أن الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال، وقوله ‏{‏بالقسط‏}‏ أي بالعدل في رحمتهم وحسن جزائهم، وقوله ‏{‏والذين كفروا‏}‏ ابتداء و«الحميم» الحار المسخن وهو فعيل بمعنى مفعول ومنه الحمام والحمة ومنه قول المرقش‏:‏

في كل يوم لها مقطرة وكباء معدة وحميم *** وحميم النار فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه سلم إذا أدناه الكافر من فيه تساقطت فروة رأسه، وهو كما وصفه تعالى ‏{‏يشوي الوجوه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏